سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


وقد حارت العقول في رموز الحكماء، فكيف بالأنبياء؟ فكيف بالمرسلين؟ فكيف بسيد المرسلين؟، فكيف يطمع أحد في إدراك حقائق رموز رب العالمين؟! قال الصديق رضي الله عنه: (في كل كتاب سر، وسر القرآن فواتح السور). اهـ. فمعرفة أسرار هذه الحروف لا يقف عليها إلا الصفوة من أكابر الأولياء. وكل واحد يلمع له على قدر صفاء شربه.
وأقرب ما فيها أنها أشياء أقسم الله بها لشرفها. فقيل: إنها مختصرة من أسمائه تعالى، فالألف من الله، واللام من اللطيف، والميم من مهيمن أو مجيد. وقيل: من أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم فالميم مختصرة إما من المصطفى، ويدل عليه زيادة الصاد في {المص} [الأعرَاف: 1]، أو من المرسل، ويدل عليه زيادة في الراء {المر} [الرعّد: 1]. و{الر} [الحِجر: 1] مختصرة من الرسول. فكأن الحق تعالى يقول: يا أيها المصطفى أو يا أيها الرسول {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البَقَرَة: 2] أو هذا {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 2] أو غير ذلك، ويدل على هذا توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بعد هذه الرموز. و{كهيعص} [مريَم: 1] مختصرة من الكافي والهادي والولي والعالم والصادق، و{طه} [طه: 1] من طاهر، و{طس} [النَّمل: 1] من يا طاهر يا سيد، ويا محمد في {طسم} [الشُّعَرَاء: 1]، إلى غير ذلك.
وعند أهل الإشارة يقول الحق جلّ جلاله: ألف: أفْرِدْ سِرَّك إِلّيَّ، انفراد الألف عن سائر الحروف، واللام: لَيِّنْ جوارحك لعبادتي، والميم: أقم معي بمحو رسومك وصفاتك، أزينك بصفاء الأنس والقرب مني. قاله الثعلبي.
قلت: والأظهر أنها حروف تشير للعوالم الثلاثة، فالألف لوحدة الذات في عالم الجبروت، واللام لظهور أسرارها في عالم الملكوت، والميم لسريان أمدادها في عالم الرحموت، والصاد لظهور تصرفها في عالم الملك. وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر الذات في عالم الشهادة، فالألف يشير إلى سريان الوحدة في مظاهر الأكوان، واللام: يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت، والميم يشير إلى تصرف الملك في عالم الملك، وكأن الحق تعالى يقول: هذا الكتاب الذي تتلو يا محمد- هو فائض من بحر الجبروت إلى عالم الملكوت، ومن عالم الملكوت إلى الرحموت، ثم نزل به الروح الأمين إلى عالم الملك والشهادة، فلا ينبغي أن يرتاب فيه.


{ذّلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}
قلت: الريب: تحرُّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام.
يقول الحقّ جلَ جلاله: يا أيها الرسول المصطفى والنبيّ المجتبى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} الذي أنزلناه عليه من جبروت قدسنا وملكوت عزِّنا {لا رَيْبَ فِيهِ} أنه من عندنا. فمن ارتاب فيه، أو نسبه إلى غيرنا، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا، وحلّت عليه شدائد نقمتنا، ومن تحقق به أنه من لدنا، وآمن بمن جاء به من عندنا، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا، فإذا أحببته كنت له، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يتكلم... الحديث. فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين، وكان في ذروة درجات المتقين، الذين يهتدون بهدي القرآن المبين، كما أشار إلى ذلك بقوله: {هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ} قلت: {هدى} خبر عن مبتدأ مضمر، أو مبتدأ بتقديم الخبر. أي: هو هاد للمتقين، أو فيه الهدى لهم. والهدى: هو الإرشاد والبيان، ومعناه: الدلالة الموصلة إلى الحق. والمتقي: من جعل بينه وبين مقت الله وقاية، وله ثلاث درجات:
* حفظ الجوارح من المخالفات،
* وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات،
* وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات،
فالأولى لمقام الإسلام، وإليه توجه الخطاب بقوله: {فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التّغَابُن: 16]، والثانية لمقام الإيمان، وإليه توجه الخطاب بقوله: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَأُوْلِي الأَلْبَابِ} [المَائدة: 100]، والثالثة لمقام الإحسان، وإليه توجه الخطاب بقوله: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عِمرَان: 102].
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ذَلِكَ الكِتَابُ} الذي لا يقرب ساحتَه شكٍّ ولا ارتياب، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوي الألباب، فلا يزالون يَتَرَقَّوْنَ به في المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال، قد انمحت في حقهم الرسوم والأشكال، وهذه غاية الهداية، وتحقيق سابق العناية.
قال جعفر الصادق: (والله لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون).
وقال أيضاً- وقد سألوه عن حالة لحقَته في الصلاة حتى خرّ مغشيّاً عليه، فلما سُرِّيَ عنه، قيل له في ذلك فقال: (ما زلت أرددت الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته).
فدرجات القراءة ثلاث:
أدناها: أن يقرأ العبد كانه يقرأ على الله تعالى واقفاً بين يديه، وهو ناظر له ومستمع منه، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرّع والابتهال.
والثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم.
والثالثة: أن يرى في الكلام المتكلم، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته، بل يكون فانيّا عن نفسه، غائباً في شهود ربه، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار.
فالأولى لأهل الفناء في الأفعال، والثانية لأهل الفناء في الصفات، والثالثة لأهل الفناء في شهود الذات، رضي الله عنهم، وحشرنا على منهاجهم... آمين.


قلت: هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال، الأول: عمل قلبي وهو الإيمان، والثاني: عمل بدني، وهو الصلاة، والثالث: عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها.
أما العمل القلبي: فهو الإيمان أولاً، والمعرفة ثانياً، فما دام العبد محجوباً بشهود نفسه، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب، يؤمن بوجود الحق تعالى، وبما أخبر به من أمور الغيب، يستدل بوجود أثره عليه، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان، أفضى إلى الشهود والعيان، فصار الغيب عنده شهادة، والملك ملكوتاً، والمستقبل حالاً، والآتي واقعاً، وقد قلت ذلك:
فَلا تَرْضى بغَيْرِ الله حِبّاً *** وكُنْ أبداً بعِشْقٍ واشْتِيَاقِ
تَرَى الأمْرَ الْمُغَيَّبَ ذا عيَانٍ *** تَحْظَى بالوصُولِ وبالتَّلاَقِي
وفي الحكم: (لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها) وقال في التنوير: ولو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطّى وجود الأكوان. اهـ.
وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به؛ إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص، والله تعالى أعلم.
وأما العمل البدني: فهو إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، وحفظ السر فيها، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: (كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، وإما بمعنى يرجع إليها، قال تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاَةَ}، وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ} [الإسرَاء: 78]، {وَالْمُقِيمِى الصَّلاَةِ} [الحَجّ: 35]، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5] ولم يقل: فويل للمقيمين الصلاة).
وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً، وهو من أفضل القربات، يقول الله- تبارك وتعالى: «يا ابنَ آدم أنفِقْ، أنفقْ عليك»، وفي حديث آخر: «أنفِقْ ولا تخَفْ مِنْ ذي العرشِ إقْلالاً» وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ فِي الجنَةِ غُرفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا»، قيل: لِمَنْ هِي يا رسولَ الله؟ قال: «لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ، وأفْشَى، السلام، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام» وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «إن الله- عزّ وجلّ- ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً، الجنةَ: رَب البيتِ الآمرَ به، والزوجة تصلحه، والخادمَ الذي يناولهُ المسْكِين» وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «إنّ الصدقةَ لتسُدُّ سَبعينَ باباً من السّوء»
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «صنائِع المعْرُوف تقي مَصارعَ السُّوءِ، وصدقةُ السِّر تُطفِئ غَضَبَ الربِّ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العمرِ».
الإشارة: يا من غرق في بحر الذات وتيار الصفات {ذلك الكتاب} الذي تسمع من أنوار ملكوتنا، وأسرار جبروتنا {لا ريب فيه} أنه من عندنا، فلا تسمعه من غيرها، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} [القيامة: 18]، فهو هاد لشهود ذاتنا، ومرشد للوصول إلى حضرتنا، لمن اتقى شهود غيرِنا، وغرق في بحر وحدتنا، الذي يؤمن بغيب غيبنا، وأسرار جبروتنا، التي لا تحيط بها العلوم، ولا تسمو إلى نهايتها الأفكار والفهوم، الذي جمع بين مشاهدة الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، إظهاراً لسر الحكمة بعد التحقق بشهود القدرة، فهو على صلاته دائم، وقلبه في غيب الملكوت هائم، ينفق مما رزقه الله من أسرار العلوم ومخازن الفهوم، فهو دائماً ينفق من سعة علمه وأنوار فيضه، فلا جرم أنه على بينة من ربه.
ولمَّا ذكر الحق تعالى من آمن من العرب، ذكر من آمن من أهل الكتاب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8